Translate

السبت، 1 يونيو 2019

ق.ق سم الخياط .. عصام الفتلاوي

عصام الفتلاوي

عـنـــــــوا ن القصـــــــة ....

 :: سُــــــمِّ  الخِـيـــــاط ::

غارت عيناها في وادٍ سحيق من الصور المتراكمة عبر سنين من العناء..ذبلت منها الأجفان حتى كادت تتهدل فوق تلكم الوجنات..وقد أصابت يدها المتعبة رعشة لم تكد تغادرها إلا ّ قليلا ً..خفـُت ذلـك النور الذي كان يصطحب بصرها النافذ إلــــــى أُفقٍ كان يترائى لها حتى حينما تقذف به وسط ميدان سُـم ِّ الخياط..فيبدو لها خاضعاً ذليلا ً إلى أن تدسّ بين منكبيه قماش القطن الملفوف لينطلق إلى الساحل المقابل جريئاً شامخاً منتصراً..فقد أفنت شوطاً طويلاً وهي تتفنـّنُ في أسلوب رتق الجلابيـــــــب المبعثرة وترتيب أكوام الخيوط الممّـزقة..حتى كادت تخترع ضرباً من ضروب المقاييس على أحجام البشر المتفاوتة...... لم تزل تتوق إلى ما كان يؤنس وحشتها..ويبدّدُ وحدتها.. فتناولت تلـك الآلة الصلبة وحاولت أن تمزج بين ذلـك القطن الملتــوي وتلـك الفتحة الدقيقة التي ما عادت تخضع لنفوذ أناملها الخشنة المرتجفة..حتى نفذ الحديد المدبّب إلى دهاليز جسدها فشـــــــقّ أخدوداً ناعماً في أنسجةِ الجلد المتهّريء..فأنهمر ذلـك السائل القاني يـَندبُ عريناً ضعفت قوائمه..ويشكو هَرَماً قد تآكلت قواعده.. فإكتست سبّابتـُها لونا ً أحمراً فكان الدم العبيط يتقطر منها قطرة ً إثر قطرة..فلم تأبه بأ لم البنان ولم تلتفت لذلـك المائع الثمين الذي شقّ طريقه نحو حيّز ضيق بين شقوق البلاط الذي كان يطغي على أرضية المكان برونقه وجماله الأخاذ..حتى أنغمر الخيـــــط ورأسه من سُـم ِّ الخياط في قاع ذلـك الشقّ النحيف وكأن موجاً عاتياً تلاقفه في جوف بحر هائج..لكنها باتت مشغولة بالبحث عن ذلـك الرأس المدبـّب وعن تـلك الخيوط الرفيعة التي كانت ترتبط بنشاطه..وتتشبّـث بتلابيبه العنيدة..أخذت تجابه ظلمة المكان بعد أن جَنّ الليل وسادت خيوطه الأخطبوطية كل آفاق القرية الصغيرة..فتحولت غرفتها إلى قبو موحِش وصار حيـّزها قبرٌ لا حياة فيه..إمتزج جسدها الضعيف  مع غشاوة الظلام وتلبـّست فضاءات عيونها بخيوط السواد المعتمة..فلم تعـُد تتحكـّم بأناملها الموهوبة فضلاً عن باقي حركاتها المتواضعة.. لزمت مكانها وأحتكرت بصيص الضياء الراكد بين جفونها إلى صباح اليوم التالي..علـّها تستلهم مما حدث عبرة وتستوحي مما كان رنين منبّه لما يجب أن يكون.فبينما هي كذلـك إذ دبّت خطى ذلـك الفجر.وتوغلت أشعة الصباح خلال فناء البيت الرتيب..إنتبهت من غفوتها القصيرة..فتحت عينيها بعد أن أصابها أعياء ذلـك الليل البهيم..نظرت إلى سبّابتها اليمنى وقد إتشحت بلون الدماء الجافـّة..عادت تبحث عن ذلـك الرأس الناعم من جديد..أخذت تسافر بناظريها إلى أركان المكان المتواضع فلم يحالفها حظها في إدراك بُغيتها المسكينة..حتى وقع بصرها المنهك على كومة بجانبها من رمال متفتـّتة يغلب عليها اللون الأحمر القاني..فما كان منها إلا ّ أن دسّت إصبعها المكلوم في وسطها إثر حركة مفاجئة تبدو لا إرادية..بعثرت تلكـــم الكومة فترائى لها ذلـك الأخدود الذي يربض بين طيات الأرض..حتى عثرت على مرادها..ولـكن كيف لها أن تنال سُـمِّ الخيــاط القابع في قاع ذلـك الشقّ الذي ملأ فراغه دون أن يترك فاصل بين زواياه..حاولت فلم تفلح..فتبعتها بأخرى وبائت بفشل ذريع لم تأ لفه من قبل..تيقظت إلى إستحالة تحقيق هدفها..فإنتابتها خيبة أمل شديد..حتى سالت دموعها وأخذت تجهش بالبكاء..كأنها قـــد فقد ضلعاً من ضلوع صدرها المُـعنّى.. فتابـَعتْ الأنـّات..وتوالت الزفرات..وأفرطت حتى كان الدمع ينهمر مطراً مغدقا ً يغســــل حنـّاء الدم..ويزيل آثار الجفاف..فيروي أناملا ً طالما توغلت في أغوار الشقاء..ويسقي فؤادا ً طالما لعبت بنبضاته أفانين الحيرة والإلتياع..فإذا هدأت روعتها.. وسكنت زفرتها..وأمسكتْ دمعتـُها..تبادرت إلى خلجاتها ومضة أمل كانت قد هجرتها.. وعـــــادت لتلحظ خيطا ًرفيعاً قد برز من وراء تلكم الرمال الحمراء التي قد بعثرتها قبل حين..أخذت بطرفه فـَسَحبتـْه شيئاً فشيئا ً..حتى بان طرف ذلـك الرأس الفضيّ فبادرت لإلتقاطه حتى كان بين يديها خاضعاً جاثماً لايُحـّرك ساكناً..فلفت إنتباهها ما يتوسط طرفــــه من فتحةٍ دقيقةٍ كانت ترى ما تشاء عبرها ولـكن قبل أن تتساقط سنيّ عمرها مثـلما تتهاوى أوراق الشجر في خريف عاصــــف ثائـر مغبـَرْ..فأيقنت ساعتها إنها تكافح عدوا ً غير منظور لخفوت نور بصرها الذي كان نافذا ً وقتها..فلا يمكن أن تستمر فــــي باب معيشتها مهنة ً ماهرة..وخبيرة مثـلما لا يمكــــن أن ينفـــذ الجمـــلُ في سُــــــمِّ الخـِـــــياْط..........

 \ العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق